الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

{{{ صوتٌ من الماضى ؛ النهاية }}}



{ 11 }

ظل مروان طيلة المتبقى من تلك الليلة مسهداً يفكر فيما سمعه ورآه فى هذه الليلة , وظل يقلب الأمر فى رأسه , هل يوافق على القيام بهذه المهمة التى عرضتها عليهما الفتاة ؟ أم يكتفى من الغنيمة بالإياب وينفض يده من كل هذا الأمر وكفاه ما سمعه ورأه فى الليلتين السابقتين , وفى النهاية غفا مروان وكان قد إتخذ قرارة النهائى ,
وفى اليوم التالى إتصل تليفونياً بالبروفيسور فرنسوا , فأخبره الخادم أنه غير متواجد , فطلب منه أن يبلغ رسالة لسيده عندما يحضر , وهى أنه موافق ,
وظل مروان قابعاً فى بيته لم يبارحه فى هذا اليوم يطالع بعض الكتب التى حصل عليها مسبقاً من المكتبة العامة , حتى تلقى إتصالاً هاتفياً من البروفيسور عند المساء والذى أبدى سروره وإرتياحه لموافقة مروان على خوض تلك التجربة , فقد كان فرنسوا حريص كل الحرص أن يظل هذا الأمر معلوماً فى أضيق الحدود , وما دام القدر قد زج بمروان منذ البداية فى هذا الأمر , فكان من الأفضل أن يظل هذا الأمر بينهما هما فقط ,
وإتفق مع مروان على ان يلتقيا يوم الأربعاء القادم ليراجعا سوياً الخطة التى سينفذوها وذلك بحضور كريستين ايضاً , على أن ينطلقا يوم الخميس إلى قرية ( مون كرابو ) والتى بها مقر تلك الساحرة ,
وفى الموعد المتفق عليه إنطلقت سيارة تحمل البروفيسور وبرفقته مروان متوجهة إلى (مون كرابو ) فى الجنوب , بينما كانت كرستين قد سبقتهما إلى هناك بحجة أنها ستعد الطريقة التى سيتمكنون بها من التسلل إلى بيت تلك الساحرة ,

ووصلت سيارة البروفيسور ومروان إلى القرية وكانت الساعة قد تخطت العاشرة مساء , وهناك تقابلا مع كريستين فى إحدى المقاهى التى حددتها لهما من قبل وهناك أخبرتهما انهم لن يستطيعوا التسلل إلى البيت قبل أن ينتصف الليل , وقضوا بعض الوقت فى مراجعة التفاصيل , حتى حان موعد الإنطلاق لتنفيذ المهمة ,
وهناك بدا لهم البيت بطرازه القديم الذى يرجع إلى القرن الماضى , وكان البيت يحمل طابعاً مقبضاً للنفس , وكأنه يحوى بداخله شياطين الأرض , وكان السكون يعم المنطقة فقد كان البيت مقام فى منطقة متطرفة من البلدة وكأن الناس يخشون البناء بجانبه , إلى جانب أن الليلة كانت ليلة شديدة البرودة وإن كانت ليلة مقمرة وقد اضفى ضوء القمر الفضى جواً زاد من رهبة المكان ,
وبالطبع لم تكن هناك حراسة من أى نوع على هذا المنزل والذى يعد اثراً من الأثار التاريخية , فقد إكتفت الحكومة بكل ما دار حوله من سمعة سيئة , مما ضمن لها ان أحداً عاقلاً لن يجرؤ على إقتحامه فى أى وقت
ودارت بهما كريستين إلى الجهة الخلفية للمنزل حيث يوجد باب حديدى صغير دفعته بصعوبة حتى إنفتح مصدراً صريراً عالياً يدل على أنه لم يفتح منذ سنوات طويلة , وتقدموا من الباب الداخلى , وقامت كريستين بمعاجة مزلاجه بآلة ما كانت معها , ولم يستغرق الأمر منها كثيراً حتى أنفتح الباب وكأنها لصاً محترفاً مما أثار دهشة مروان ان تحمل مثل تلك الفتاة البادية الرقة تلك الخبرات العجيبة , وأصدر هذا الباب أيضاً صريراً عالياً , وولجوا إلى الداخل حيث كان الظلام دامساً إلا من ضوء القمر الذى بدد قليلاً من هذا الظلام الدامس , وإن كان أضفى على المدخل ظلالاً بدت وكأنها أشباح عملاقة , وأغلقت كريستين الباب فساد الظلام تماماً ولكنها سرعان ما أضاءت كشافاً كهربائياً بدد الكثير من هذا الظلام , وتحركت داخل الردهة بسهولة وكأنها كانت تعيش فى هذا البيت منذ نعومة أظافرها , وتقدمت الفتاة إلى المدفأة التى فى صدر القاعة وأشعلت بعض أعواد الثقاب فأضاءت شمعداناً سباعياً بدد الظلام تماماً فى الردهة , وشعر مروان بإمتعاض عندما أدرك ان هذا الشمعدان السباعى هو ذلك الرمز اليهودى الشهير , وألقى الجميع نظرة متفحصة على تلك الردهة وكم كان عجب مروان عندما رآها لا تختلف كثيراً عن أى ردهة فى أى بيت عادى , هذا بخلاف تلك اللوحات الزيتية البادية القدم والتى تحمل وجوهاً لرجال ونساء يبدو من ملامحهم المكر والشر , وكان يبدو من الملابس التى يرتديها صاحب كل لوحة من تلك اللوحات أنها تعود إلى أزمنة مختلفة ,
وأشارت لهما الفتاة أن يتبعاها وتقدمت إلى باب فى نهاية القاعة الفسيحة وكان يوجد فوق هذا الباب ذلك الصليب المقلوب , والذى إتخذته الجماعة التى أطلقت على نفسها عبدة الشيطان رمزاً لها ,
وعالجت الفتاة هذا الباب حتى إنفتح , فقابلتهم رائحة عطنة تثير الإشمئزاز , وشعر مروان بالغثيان عندما إقتحمت تلك الرائحة أنفه , وعندما أنارت لهما الفتاة الطريق بالشمعدان تبين لهما أن هذا الباب كان يخفى ورائه مدخل لقبو وكانت هناك عدة درجات سلمية تتخطى العشرين درجة , هبطت الفتاة أولاً وتبعها الإثنان , بينما زادت تلك الرائحة العطنة , وعندما لامست أقدامهم أرضية القبو شعروا بها وكأنها أرضاً رخوة وصارت , الفتاة فى خط مستقيم وهما من ورائها حتى وجدوا باباً حديدياً أخر فى نهاية هذا الممر , وكالعادة قامت الفتاة بمعالجة الباب حتى إنفتح , وتقدمت الفتاة إلى الداخل , ومن خلفها البروفيسور , بينما تسمرت أقدام مروان فى الأرض ولم يقوى على التحرك , فقد أدرك أن هذه الغرفة هى قبر الساحرة الشريرة , وحث فرنسوا مروان على التقدم فغالب الأخير خوفه ورهبته وتقدم إلى الداخل ,
وكانت الغرفة ضيقة إلى حد ما , لا تتجاوز مساحتها الخمسة أمتار فى أربعة امتار , وكانت جدرانها من الحجارة البيضاء العارية من أى طلاء و فى منتصف أرضبة الغرفة كان هناك مستطيلاً من الحجارة يرتفع عن الأرض بحوالى أربعين سنتيمتراً ويبلغ طول أضلاعة المترين طولاً وحوالى سبعين سنتيمتراً عرضاً , بينما كان يغطى سطحة رمالاً ناعمة بيضاء اللون , وفى كل زاوية من زوايا هذا المستطيل يوجد رمح معدنى طوله حوالى المتر ونصف المتر وفى نهايته توجد جمجمه ,
وفى صدر الحجرة كانت توجد مصطبة ترتفع حوالى متراً عن الأرضية وبعرض الحجرة كلها وكانت هناك عدة درجات رخامية من المرمر الأبيض وكذلك كانت المصطبة كلها من هذا المرمر الأبيض , وفوق هذه المصطبة يوجد كرسى يشبه تماماً عروش الملوك والأباطرة فى العصور المنصرمة , وإن كان افخم منها بمراحل كثيرة وكانت الوانه المذهبة زاهية وكذلك بطانته المخملية الحمراء , وكان يعلو هذا العرش العجيب ذلك الصليب المقلوب ولكنه كان يلمع بتوهج وكانه من الذهب الخالص , وعلى جانبى العرش كانت هناك لوحتان من المرمر الأسود بعرض خمسن سنتيمتر وتمتد من سقف الحجرة إلى طرف المصطبة الرخامية , وكان محفوراً فى تلكما اللوحتين رسومات وطلاسم عجيبة ,
وبخلاف هذا لم يكن بالغرفة أى شئ آخر , وكذلك لم يكن يوجد بها أى نوافذ بالطبع سوى كوة واحدة مربعة الشكل فى نهاية الحائط الجانبى الايمن , ويبدو أنها كانت متصلة بمجرى هوائى يمتد إلى خارج هذا القبو , حيث شعروا بتيار من الهواء البارد ينفذ منها ,
ووقف البروفيسور فرنسوا ومروان يطالعان الغرفة فى دهشة وذهول , بينما بدت كريستين وكأنها ليست تلك هى المرة الأولى التى تشاهد فيها هذا المكان , فلم يبد عليها إى إندهاش ولا تأثر ,
وعندما لاحظت ذهولهما قالت
> لقد كانت تلك الغرفة هى التى تتعبد فيها الساحرة أولجا سباستيان إلى سيدها , الشيطان الأكبر ( لوسيفر ) وهذا العرش الذى ترونه أمامكما معداً لهذا السيد إذا ما حضر إليها , إلى جانب أنه صاحب الدور الأساسى فيما سنقوم به الأن , والآن نبدأ فى الإعداد للطقوس .
ولم يزدهما كلام تلك الفتاة سوى المزيد من الرهبة والوجل , ولكنها لم تعيرهما أى إهتمام وتقدمت من تلك الجماجم التى كانت تعلوا الرماح حول جوانب القبر المستطيل وقامت بإشعال شمعة كانت توجد داخل كل جمجمة من تلك الجماجم الأربعة , وقامت برسم رسومات عجيبة وغريبة فوق الرمال البيضاء التى تغطى سطح القبر وذلك بإصبعها , وبمهارة شديدة جداً , وطلبت من البروفيسور الرقاقتان اللتان تحملان الطلسم الأكبر , ثم أخرجت من ملابسها قنينة متوسطة الحجم وفرشاة صغيرة من تلك التى تستخدم فى الرسم والتلوين , وفتحت القنينة , ووضح ما بها فقد كانت دماء , وإن كانا قد جهلا هل هى دماء بشرية أم دماء حيوان ما ,
وقامت الفتاة برسم تلك الرسومات العجيبة التى كانت موجودة على صفحة الرقاقتين الجلديتين فوق الرخام الأبيض أسفل العرش الموجود فوق المصطبة ,
وكانت البراعة والسرعة التى رسمت بها كريستين تلك الرسومات مثار دهشتهما , فقد بدأت وكأنها إعتادت هذا الأمر تماماً ,
واخرجت كرستين قنينة أخرى فى نفس الحجم وعندما فتحتها إنبعث فى المكان رائحة خبيثة أثارت غثيانهما , وقامت برش محتويات تلك القنينة حول العرش مما زاد من إنبعاث هذه الرائحة النتنه , وكأنها خلاصة روث البهائم
وبعد أن أنهت كريستين تلك الطقوس العجيبة أعادت إلى كل منهما رقاقة من الرقاقتين الجلديتين , وكانت ملامحها قد تبدلت تماماً وإرتسم على وجهها صرامة غريبة وقالت بصوت شديد الصرامة
> الآن وبعد أن اصبحت الغرفة معدة جيداً لإستقبال الروح ياتى دوركما , لا اريد أن انبه عليكما مرة أخرى أن تلك المرحلة هى أخطر المراحل وأهمها , وأى خطأ أو إهمال فسيصيبنا جميعاً أذى أكبر مما تتصور عقولكما يتضاءل أمامه الموت ذوباناً فى حوض من الحامض , سيبدأ فرنسوا بتلاوة الترنيمة التى تستدعى الروح , وعندما تبدو بوادر ظهورها فوق العرش لابد وأن يسرع مروان بترتيل ترنيمته التى سوف تقضى عليها , والآن ليتخذ كلاً منكما مكانه أمام هذا القبر بجوار أحد تلك الرماح التى تحمل الجماجم المضيئة
وقامت كريستين بإطفاء شموع الشمعدان ولم يبق من ضوء سوى هذا الضوء الخافت الذى ينبعث من الشموع التى بداخل الجماجم والذى أضفى على الحجرة مشهداً مريعاً , بينما جثت هى أمام العرش وكأنها تؤدى صلاة ما , معطية ظهرها لهما ,
وعند تلك اللحظة شعر مروان بالرجفة تسرى فى جسده واصبحت ساقيه لا تقويان على حمله , وهم بأن يطلق لساقيه الريح لولا حيائه من أن يبدو فى هذا المظهر الطفولى , وكأن البروفيسور قد شعر بما يختلج فى رأس مروان فشد على يده ليثبته ويبث بعض القوة فيه ,
وبدأت الفتاة تطلق ترنيمات وتعويذات بلغة غريبة ,وهى تشير وترسم فى الهواء بأصابعها رسومات وهمية , وفى اللحظة التالية أشارت إلى فرنسوا أن يبدأ ترتيله ,
وعلا صوت البروفيسور بالترتيل بنفس تلك اللغة والتى كانت قد تم ترجمة حروفها إلى الإنجليزية وإن ظلت لغة غير مفهومة ,
ومرت دقائق وكان البروفيسور مازال يرتل تلك الطلاسم , فجأة خيم على الحجرة جو ثقيل وكأن الهواء أصبح مثل الزئبق فى ثقله , وبدأ لهب الشموع يتراقص فى الوقت الذى إهتز فيه العرش وكأن هناك من يحركه ,
وفى تلك اللحظة جثت الفتاة أكثر حتى كادت جبهتها تلامس الأرض وهى تطلق ترنيماتها العجيبة , فى الوقت الذى يزداد فيه الهواء داخل الغرفة ثقلاً , وإنتشرت فى جو الغرفة رائحة منتنة خبيثة لا يظن أحد أنه قد شم مثلها من قبل , وكأن هناك أبواب ألاف القبور قد فتحت لتبعث ما سكن داخلها من روائح منتنة على مر التاريخ , وتردد فى الحجرة صوت يشبه هدير ألاف المحركات النفاثة , حتى كاد يصم آذانهما , وهنا حدث ما لم يكن فى الحسبان

لقد تتابعت الأحداث فى سرعة غريبة ,

فقد كان من المفترض أن يبدأ مروان بترتيل التعويذات والطلاسم التى كانت فى الرقاقة التى بيده ,
ولكنه بدلاً من هذا ألقى بتلك الرقاقة على الأرض وأخذ يبسمل ويحوقل , ويتلو ما تيسر له من القرآن الكريم , وفتح الله عليه فقرأ أية الكرسى ,
وفى نفس اللحظة أخرج البروفيسور فرنسوا ورقة عادية من جيبه وفردها بسرعة وقام بترتيل ما بها من طلاسم ,
وما أن بدأ فى ذلك حتى إلتفت إليه الفتاة وكان وجها قد تحول إلى صورة بشعة فى ظل تلك الأضواء الخافته , ونظرت إلى فرنسوا نظرة شيطانية وصرخت به
> ماذا تفعل إيها التعس ؟ توقف عما تتلوه يا رجل ..
ولكن فرنسوا لم يعيرها أى إلتفات وظل يرتل تلك الطلاسم والتعويذات ويجلجل صوته بها
وترددت فى الحجرة أصوات صرخات كأنها تأتى من قعر الجحيم

وإشتعل فجأة العرش بنار وهاجة وكانها الفسفور المحترق
وتفجرت بقع ٍ من الدماء لتغطى الرمال البيضاء فوق سطح القبر
وهمت الفتاة بالنهوض لتفتك بفرنسوا , ومروان الذى كان لا يزال يردد كل ما يحفظ من القرآن الكريم
وقبل ان تتحرك الفتاة من مكانها إنطلق لهب من النار التى إشتعلت فى العرش ليصيبها ,
وفى لمح البصر ,
تحولت الفتاة إلى كو مة من الرماد المحترق ,

وفى تلك اللحظة أطلق البروفيسور ساقيه للريح وهو يجذب مروان خلفه ,

ثم قام بإغلاق الباب الحديدى بإحكام ,
بينما ظلت تلك الصرخات الشيطانية تتردد داخل الغرفة
ولفح النار يكاد يذيب الباب الحديدى
وهنا أنطلقا الإثنين يسابقان الريح عدواً خارج القبو ثم خارج البيت كله ,
وظلا يعدوان ولم يحاولا حتى النظر خلفهما , حتى بلغا السيارة , فركباها وإنطلقا بها
وفى نفس تلك اللحظة تحول بيت الساحرة إلى كومة من الأحجار ,

***********
 
{ الخاتمة }


إنطلقت السيارة تحمل البروفيسور فرنسوا ومروان بسرعة كبيرة وكأن شياطين الأرض تطاردهما ,
وظل مروان على حالته من الذهول الصامت وكأ نه قد فقد النطق تماماً ,
بينما كان فرنسوا يحاول جاهداً أن يلملم شتات نفسه ويستعيد رباطة جأشه
وظلا على تلك الحال ما يقرب من نصف الساعة , وبدأ بعدها فرنسوا إبطاء سرعة السيارة حتى توقفت تماماً أمام إحدى تلك المقاهى المنتشرة على الطريق السريع , وطلب من مروان أن يهبطا لتناول مشروباً ساخناً يبعث الدفئ فى أوصالهما
فأطاعه مروان دون أن ينطق بكلمة , وعندما إنفردا بمنضدة بعيدة عن أذان المتطلفلين , طلب البروفيسور قدحين من الشيكولاتة الساخنة ,
ورشف فرنسوا رشفة من المشروب الساخن وقال لمروان
> أعلم جيداً أن تلك التجربة كانت فوق طاقة إحتمالك , ولكن لك أن تحمد الله اننا قد خرجنا منها سالمين , فما كان لأحد أن يعلم ما يمكن أن يحدث لنا فى هذا المنزل الملعون ؟
إرتشف مروان رشفة هو الآخر وقال بصوت واهن متعب
> أعتقد يا سيدى إنك لديك الكثير الذى تود أن تخبرنى به ؟ على الأقل تفسر لى تلك الجريمة البشعة التى أرتكبناها فى حق تلك الفتاة المسكينة ؟ التى تحولت فى لحظات إلى كومة من الرماد المحترق ؟
> نعم بالطبع , فأنا مدين لك بتفسير كل ما حدث اليوم , ولكنى كنت أظنك أكثر ذكاءاً من هذا , بالدرجة التى تجعلك تدرك أن الفتاة إستحقت عن جدارة كل ما حدث لها .
> ماذا تقول يا سيدى ؟ أرجوك أن توضح أكثر ؟
> يابنى لقد ارادت تلك الفتاة أن تمتطى ظهورنا لتحقيق رغبتها الشيطانية فى أن تكون الخليفة القادمة للساحرة أولجا سباستيان , مهلاً لا تنزعج هكذا , فتلك هى الحقيقة التى أدركتها أنا منذ البداية , فلقد بدأ الشك يساورنى تجاه تلك الفتاة منذ أن رأيت تلك النظرة الشيطانية التى إرتسمت للحظات فى عينيها عندما رأت تلكما الرقاقتين من الجلد اللتين كانتا تحويان الطلسم الأعظم , فلم تكن تلك النظرة أبداً نظرة إنسان يريد أن يقضى على هذا الشر العظيم , بل كانت نظرة نهم شرهه وكأنها بحاراً قد عثر على خريطة الكنز المفقود ,
> ولهذا السبب فقد رفضت أن تعطيها الرقاقتين ؟ أليس كذلك ؟
> نعم بالطبع , فكان لابد لى أولاً أن أتيقن ويطمئن قلبى للطريق الذى ستسير فيه تلك الطلاسم المرعبة , وقد زاد شكى فيها عندما وجدت تلك النظرة فى عينيها عندما خبأت الرقاقتين فى الدرج , وأدركت هى أنها لن تحصل عليهما , ثم بعد ذلك بدا لى كذبها فى بعض النقاط الحيوية مثلاً فى أثناء ظهور تلك الروح الجبيثة فى القاعة تلك الليلة التى قامت فيها السيدة لورا مارتينى بتجربة تحضير الأرواح , فقد قالت أنها حضرت خصيصاً وساعدت على ظهور تلك الروح , لكى تقضى عليها , فى نفس الوقت الذى قالت فيه أن القضاء عليها يستلزم طقوساً وترنيمات معينة لم تكن تملكها فى هذا الوقت , فكيف لها إذاً أن تفعل ؟ وإن كنت أظن أن هناك صفقة ما قد تمت بينها وبين تلك الروح الشريرة عندما هرولنا نحن خارج القاعة وإنفردت هى بها , وتلك الصفقة هى أن تحل محل أولجا سباستيان ,
>سيدى .. إن ما تقوله غاية فى الخطورة , ولا يكفى التخمين لكى تقطع به ,
> إنه ليس تخميناً يا مروان , ولكنه منطق , ولكن دعك من تلك النقطة , فقد عادت لتكذب مرة أخرى عندما أخبرتنى أنها قد قامت بحرق المخطوط الذى يحوى بروتكولات الإستحواذ , وهذا ما يتنافى مع أبسط قواعد العقل والمنطق ,فكيف لشخص ما يسعى لتحقيق هدف ما بإستخدام هذا المخطوط حتى ولو كان ناقصاً ؟ ثم يقوم بإحراقه قبل أن يحقق هذا الهدف بدعوى أنها قد حفظت ما به عن ظهر قلب , وكانت الكلمة الفاصلة فى كل تلك الشكوك والتى حولتها لدى إلى يقين , عندما صافحتنى وهو تزمع الإنصراف , فقد رأيت فى إصبعها خاتماً أعلم كنهة تماماً , ذلك الخاتم الذى يحمل نقشاً يمثل فرجاراً مدبب الطرفين وقاعدته لأسفل ويتقاطع مع حرف V المدرجة وبينهما أحد الحروف الأبجدية التى توضح رتبة صاحب الخاتم , إنه رمز الماسونية العالمية , وكان واضحاً من الرمز انها تتبوأ مركزاً هاماً فى هذه المنظومة , تلك المنظومة صاحبة الأفكار الجميلة ظاهراً والشيطانية باطناً , ولهذا فقد تأكدت وتيقنت من هدف تلك الفتاة , فما كان لإنسان يعتنق الفكر الماسونى الشيطانى , ثم يسعى لمحاربة الشيطان نفسه , ولهذا فأنا لا أستبعد مطلقاً أن تكون تلك الفتاة قد إنتزعت أسرار المخطوط المسمى ( ترنيمة الخلود ) إنتزاعاً من جدتها هيلينا , التى حرصت وكانت مخلصة فى حفظ هذا السر لمدة سنوات طويلة , ولا أستبعد ايضاً أن تكون قد قتلتها بعد هذا بطريقة أو بأخرى , فمن يعتنق هذا الفكر الشيطانى , فتوقع منه كل ما هو فظيع ,
> ولكن , لماذا أرادت إستخدامنا نحن دون غيرنا فى تحقيق هذا الهدف الذى كانت تسعى إليه ؟ فقد كان فى مقدورها الحصول على الرقاقتين بطريقة أو بأخرى حتى لو إرتكبت جريمة ؟
> يا ولدى , إن مثل تلك الفتاة غاية فى الذكاء , ولقد أدركت على الفور أننى قد علمت بخطور تلك الطلاسم , وتيقنت إننى لن أعطيها لها بهذه البساطة , وفى نفس الوقت قد اخفيهما فى مكان لا يمكنها الوصول إليه , فتبدأ رحلة البحث من جديد عنها , ولهذا فربما قالت فى نفسها ؟ لماذا لا أتخذ هما مطية لتحقيق هدفى , وبعد ذلك يسهل التخلص منهما نهائياً خاصة وأنها كانت تعلم أننا لا نعرف تفسير تلك الطلاسم , ومن ناحية المنطق كان هذا الحل أسلم لها ,فربما إن كانت إستعانت بأحد أخر ربما كان يعلم سر تلك الطلاسم ؟ وإحتكرها لنفسه او قضى عليها مثلما حدث الآن ؟
> يالها من فكرة شيطانية ؟ ولولا كنت أنت ياسيدى متنبهاً لها منذ البداية ؟ لكنا الآن قد قدمنا إلى هذا العالم باقة من أفخم أنواع الشرور فى هذه الدنيا , ولكنك يا سيدى لم تخبرنى كيف حدث ما حدث ؟ وما تلك الورقة الأخرى التى أخرجتها من جيبك وقرأت ما فيها وأدى إلى أن يحدث ما حدث ؟
أطلق البروفيسور ضحكة خافته وإرتشف ما تبقى فى قدحة من الشيكولاتة وقال
> لا تنسى يا مروان إنك قد ساعدت على ذلك ؟ بما ترنمت بها بعد أن ألقيت الورقة التى كانت فى يدك , واظن أنك كنت تردد قرآناً ؟ أليس كذلك ؟
> بلا يا سيدى , إنها بعض الآيات القرآنية التى نجابه بها مثل تلك المواقف , ولكن أوتؤمن بالقرأن يا سيدى ؟
> أنا أؤمن بالإيمان ذاته يا مروان , فيكفى أن يكون الإنسان مؤمناً بشئ ما مخلصاً فى إيمانه هذا , فهذا كفيل بالوصول بك إلى غايتك السامية التى تسعى إليها , على كل حال , فبعد تلك الزيارة المفاجأة من تلك الفتاة , وبعد أن تيقنت من سوء نواياها , فقد قررت التحرك بسرعة , ولهذا فقد طلبت مهلة قبل تنفيذ تلك المهمة , وأسرعت فى جلب المعلومات , والإتصال بكل من لى علاقة بهم , وخاصة فى جامايكا , حيث عاشت تلك الفتاة معظم سنون عمرها , وكانت الحصيلة التى حصلت عليها من المعلومات كافية لأن تؤكد كل ظنونى , فقد نشأت تلك الفتاة فى أحضان السحر والدجل والشعوذة التى تنتشر بصورة كبيرة فى جامايكا , فمنذ صباها ألقت بنفسها بين أحضان ساحرة شهيرة هناك وفى ظل غياب الرقيب , بوفاة والدتها وهى فى سن مبكرة ثم هجر والدها لها , فنشأت فى كنف جدتها التى كانت قد بلغت سناً لا يمنحها القوة لمواجهة جموح تلك الفتاة , وبعد ان إنضمت إلى إحدى المنظمات الماسونية فى جامايكا فقد حققت ترقيات سريعة بسبب نشاطها وإخلاصها لأهداف تلك المنظمة , وبعد أن حصلت على هذا السر والمخطوط , عادت إلى أرض أجدادها فرنسا , لتسعى وراء بقية هذا السر لتحقق الهدف الأكبر بالنسبة لها , هذا من ناحية المعلومات , بينما من ناحية أخرى كنت على يقين من أن هذا المخطوط الخطير فى حوزتها , ولهذا فقد كلفت أحد أصدقائنا من ذوى القدرات الخاصة , بإقتحام بيتها فى غيابها والبحث عن هذا المخطوط ومحاولة تصويرة فوتوغرافيا , وقد نجح فى هذا بالفعل , وكانت المفاجأة الكبرى عندما عكفت على دراسة هذا المخطوط جيداً مستعيناً بكل ما لدى من خبرات , وبكل ما لدى من مراجع ومخطوطات تتحدث عن السحر والطلاسم , إستطعت أن أفك شفرات هذا المخطوط وتوصلت إلى حقيقة مذهلة , فقد تبين لى أن سر الإستحواذ يكمن فى الرقاقتين معاً , على أن يتم تلاوتهما بتتابع منتظم , يتخلله ما رددته تلك الفتاة من ترنيمات أثناء تلك المراسم , أما الورقة الثانية التى كانت بحوذتك والتى إدعت أنها تحمل تعويذة القضاء على هذه الروح , فقد تبين لى أنه لو تم قراءتها بعكس إتجاهاها أى من اليمين إلى اليسار وليس من اليسار إلى اليمين , فإنها تفعل ما فعلته الليلة , وكان هذا هو السر الأكبر الذى إستطعت الحصول عليه , ولقد عكفت ليلة كاملة لكى أعيد كتابة تلك الحروف والطلاسم بطريقة معكوسة وبكل دقة , وضمنتها تلك الورقة التى كانت بجيبى , وفى الوقت المناسب قمت بإلقاء تلك الترنيمة المعكوسة , ونشكر رب السموات أنها كانت ناجعة وقامت بدورها بالفعل ,
> يالك من رجل ذكى أريب يا سيدى , دعنى إنحنى لك إحتراماً وتقديراً ,
أطلق البروفيسور ضحكة مرحة وربت على كتف مروان , وقال له
> ألم تشعر بالتعب بعد يا رجل ؟ أنى أكاد أسقط مغشياً على من فرط التعب ؟ هيا بنا نعود إلى منازلنا للحصول على قدر من الراحة
> أنت على حق يا سيدى , ولكن هناك سؤال أخير , ماذا كان مصير تلك المخطوطة ( ترنيمة الخلود ) وكذلك تلكما الرقاقتان اللتان تحملان الطلسم الأكبر ؟


أطلق البروفيسور ضحكة مدوية
ولكنه لم يُجيب على هذا السؤال إبداً

تمت بحمد الله تعالى
الطبعة الاولى أكتوبر 1992
الطبعة الثانية يناير 2010



هناك تعليق واحد: